فصل: الطرف الأول: في التحمل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الباب الثاني: في العدد والذكورة:

والعدد مشترط في كل شهادة، فلا يثبت بشهادة واحد حكم أصلاً، ثم الشهادات في العدد على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى: بينة الزنى، ويشترط فيها العدد والذكورة، وهي أعلى البينات، وعددها أربعة، قال يثبت إلا بأربعة رجال يشهدون أنه أدخل فرجه في فرجها كالمردود في المكحلة، وقد أتوا مجتمعين غير مفترقين.
قال الإمام أبو عبد الله: وظاهر المذهب أن للعدل النظر إلى العورة قصدًا لتحمل الشهادة.
واللواط في الشهادة كالزنى، وهل يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين أم لابد من أربعة كما في الرؤية؟ فيه خلاف على القول بأنه إذا رجع عن إقراره لغير عذر لم يقبل رجوعه.
المرتبة الثانية: ما عدا الزنى مما ليس بمال ولا يؤول إلى مال كالنكاح والجرعة والطلاق والعتق والإسلام والردة والبلوغ والولاء والعدة والجرح والتعديل والعفو عن القصاص وثبوته في النفس وفي الأطراف على خلاف فيها، وثبوت النسب والموت والكتابة والتدبير وشبه ذلك، وكذلك الوكالة والوصية عند أشهب وعبد الملك، فهذه كلها أيضًا يشترط فيها الوصفان فإنما تثبت بشهادة رجلين، ولا تثبت برجل وامرأتين.
وقال مالك وابن القاسم وابن وهب: يجوز في الوكالة بطلب المال، وإسناد الوصية التي ليس فيها إلا المال، شاهد وامرأتان.
أما ما لا يظهر للرجل كالولادة وعيوب النساء والرضاع، فإنه إنما يشترط فيه العدد فحسب، ويقول النساء فيه مقام الرجال، فيثبت بامرأتين، وكذلك الاستهلال والحيض.
المرتبة الثالثة: الأموال وحقوقها، كالأجل والخيار والشفعة والإجارة وقتل الخطأ وكل جرح لا يوجب إلا المال، فلا يشترط فيها أيضًا إلا العدد، فيثبت برجل وامرأتين. وكذا فسخ العقود، وقبض نجوم الكتابة، حتى النجم الأخير، وإن ترتب العتق عليه.
فرعان:
الفرع الأول: إذا شهد على السرقة رجل وامرأتان ثبت المال وإن لم تثبت العقوبة. وكذلك لو شهد على النكاح بعد الموت رجل وامرأتان أو رجل مع يمين الطالب ثبت الميراث عند ابن القاسم.
وقال أشهب: لا يصح الميراث إلا بعد ثبوت النكاح، ولا يثبت بذلك.
الفرع الثاني:
من أقام شاهدين وطولب بالتزكية فله أن يطلب الحيلولة، فيوقف الحيوان والعروض التي تعرف بعينها ويشهد عليها، وما خشي عليه في الإيقاف الفساد من طعام وشبهه بيع ووقف ثمنه، فإن ضاع فهو ممن ثبت له.وأما العقار فيمنع فيه من الإحداث والهدم والبناء، ولم هو بيده قبض أجرته إلى حيث ما ينفذ القضاء. وللعبد طلب الحيلولة إقامة الشاهدين على العتق. وأما الأمة فيفعل القاضي فيها ذلك وإن لم تطلب، إلا أن يكون السيد مأمونًا فيؤمر بالكف عنه.
وقال أصبغ: إن كانت من الوخش رأيتها مثل العبد، وإن كانت رائعة فلا يؤتمن عليها. وينزل شاهد واحد منزلة شاهدين في إيجاب الحيلولة إلا في الطعام الذي يخشى فساده، فلا يباع، ولكن إذا خشي عليه خلي بينه وبين من كان في يديه بعد استحلافه.

.الباب الثالث: في مستند علم الشاهد وتحمله وآدابه:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول: في مستند علمه:

والأصل فيه اليقين الواضح كالشمس،
ولكنا قد نلحق الظن به للحاجة فنقول: المشهود به قسمان:
القسم الأول ما يدرك بالحاسة فيستند إليها كالإبصار المجرد في الأفعال، والسمع المجرد في الأقوال، فتقبل شهادة الأصم في الأفعال، والأعمى في الأقوال.
وأما اعتماد الشاهد في الخط فمختلف فيه، وهو ينسم إلى ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الشهادة على خط المقر، وهو أقواها في جواز الشهادة. ويليه:
الوجه الثاني: وهو الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب. ويليه:
الوجه الثالث: وهو شهادة الشاهد على خط نفسه، وهو أضعفها في إجازة الشاهد، فمن يجيزها فيه يجيزها في الوجهين الأولين أيضًا، ومن لا يجيزها في شهادة الشاهد على خط المقر لا يجيزها في شيء من الأوجه الثلاثة.
وفي حكاية الخلاف في قبول الشهادة على الخط طريقان:
الطريق الأول: على جهة الجمع، فنقول: المذهب في قبول الشهادة في الأوجه الثلاثة على أربعة أقوال:
القول الأول: نفي الجواز في شيء من الأوجه الثلاثة.
القول الثاني: تخصيص الجواز بالشهادة على خط المقر خاصة.
القول الثالث: تخصيص نفي الجواز بشهادة الشاهد على خط نفسه.
القول الرابع: جوازها في الأوجه الثلاثة.
الطريق الثاني: على جهة التفصيل: فنقول: أما الشهادة على خط المقر فالمذهب أنها جائزة مقبولة، وأنها كالشهادة على إقراره، فيحكم له بمجرد الشهادة على الخط.
وحكى الشيخ أبو القاسم رواية بأنه لا يحكم له بها حتى يحلف معها، فرأى في الأولى أنها كالشهادة على الإقرار. ورأى في الثانية أنها لم تتناول المال، وإنما تناولت ما يجر إليه. ويخرج على الروايتين ما إذا أقام على الخط شاهدًا واحدًا هل يحلف معه ويستحق أم لا؟.
قال الشيخ أبو الوليد: والمشهور من المذهب أن الشهادة على الخط في ذلك جائز عاملة، لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت، إلا ما يروى عن محمد بن عبد الحكم من قوله: لا تجوز الشهادة على الخط، هكذا مجملاً، ولم يخص موضعًا من موضع.
وأما الشهادة على خط الشاهد الميت أو لغائب فقال الشيخ أبو الوليد لم يختلف في الأمهات المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها. قال: وروي عنه أيضًا أنها لا تجوز، وإليه ذهب محمد، وجعل الشهادة على خطه كالشهادة على شهادته إذا سمعها منه، ولم يشهده عليها. قال: وقد يكتب خطه بما قد يستريب فيه عند الأداء وقد يكتب على من لا يعرفه إلا بعينه، وقد لا يعرفه ولا باسمه. والفرق على المشهور أن الرجل قد يخبر بما لا يتحققه، ولا ينبغي للرجل أن يكتب شهادته حتى يحقق ما يشهد عليه، ويعرف من أشهد بالعين والاسم، مخافة أن يموت أو يغيب فيشهد على خطه، فأشبه ذلك من يسمع رجلاً يؤدي شهادته عند الحاكم أو يشهد عليها غيره أنه يشهد على شهادته بما سمع منه وإن لم يشهده عليها. قال الشيخ أبو الوليد: والقول الأول أظهر، إذ قد قيل، وهو قول محمد: إنه لا يجوز له أن يشهد على شهادته حتى يشهده عليها، وإن سمعه يؤديها عند الحاكم أو يشهد عليها غيره مع أن وضع الشاهد شهادته في الكتاب لا قوى قوة ذلك. قال: وقد قال ابن زرت: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد حتى يعرف أنه كان يعرف من أشهده معرفة العين.
قال الشيخ أبو الوليد: وذلك صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه لما قد يتساهل الناس فيه من وضع شهادتهم على من لا يعرفون. قال: والذي جرى عليه العمل عندنا، على ما اختاره الشيوخ، إجازتها في الأحباس وما جرى مجراها مما هو حق لله تعالى وليس هو بحد.
فرعان:
الفرع الأول: اختلف في حد الغيبة التي تجوز فيها الشهادة على خط الشاهد الغائب عند من يجيزها، فقال ابن الماجشون: قدر ما تقصر فيه الصلاة. وحكى ابن مزين عن أصبغ أنها مثل مصر من إفريقية، أو مكة من العراق.
وقال سحنون، في رواية ابنه عنه: الغيبة البعيدة، ولم يحدها.
الفرع الثاني:
إذا قلنا بقبول الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب، فقد قال مطرف وابن الماجشون: إنها تجوز في الأموال خاصة، حيث تجوز اليمين مع الشاهد.
وقاله أصبغ. في العتيبية، سئل مالك عن امرأة كتب لها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له، فوجدت المرأة من يشهد أن هذا خط زوجها، فقال: إن وجدت من يشهد لها بذلك نفعها، واختلف في مراده بقوله: نفعها، هل تطلق عليه أو تستحلفه؟.
وأما شهادة الشاهد على خطه، إذا لم يذكر الشهادة، فروى مطرف في الواضحة: إن عرف خطه ولم يذكر الشهادة ولا شيئا منها، فإن لم يكن في الكتاب محو ولا ريبة فليشهد بها، ون كان الرق طلسًا أو مغسولاً أو فيه محو فلا يشهد.
قال مطرف: ثم رجع فقال: لا يشهد، وإن عرف خطه، حتى يذكر الشهادة أو بعضها، أو ما يدل منها على أكثرها. قال: وبالأول أقول ولابد للناس من ذلك. وبه قال ابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم وابن دينار، وإن لم يحط بما في الكتاب عدداً فليشهد، وبه قال أيضاً ابن وهب وابن عبد الحكم، وهو اختيار سحنون في نوازله.
وقال ابن القاسم وأصبغ بالقول الثاني أنه لا يشهد. قال ابن حبيب: هذا أحوط، والأول جائز.
التفريع: أما على القول الأول فقالوا: يشهد، ولا يقول للسلطان إنه لا يعرف منه إلى خطه. ويشهد أن ما فيه حق، وذلك لازم له أن يفعله قالوا: وإن ذكر للحاكم أنه لا يعرف من الشهادة شيئا وقد عرف خطه ولم يرتب، فلا يقبلها الحاكم.
وأما على القول الثاني الذي رجع إليه مالك، فروى أشهب عنه أن الشاهد يرفعها إلى السلطان على وجهها، ويقول: إن كتابًا شبه كتابي وأظنه إياه ولست أذكر شهادتي ولا أني كتبتها، يحكى ذلك على وجهه ولا يقضي بها. قيل: فإن لم يكن في الكتاب محو ولا شيء، وعرف خطه، قال: قد يضرب على خطه ولم يذكر الشهادة، فلا أرى أن يشهد، وقد أتيت غير مرة بخط يدي أعرفه ولم أثبت الشهادة عليه، فلم أشهد.
قال الشيخ أبو محمد: قال أبو بكر: كان القاسم بن محمد إذا شهد بشهادة كتبها، وكان مالك بفعله. ومن لا يعرف نسبه فلابد من الشهادة على عينه.
ولا يجوز تحمل الشهادة على المرأة المنتقبة،بل لابد من أن تكشف عن وجهها ليعرفها ويميزها، عند الأداء،عن أمثالها بالإشارة والمعرفة المحققة، ولو عرفها رجلان فلا يشهد عليها بل على شهادتهما بأن فلانة أقرت، وذلك عند تعذر الأداء منهما لأنه فرعهما.
وقال ابن نافع: يشهد، ورواه عن مالك.
قال الشيخ أبو الوليد: والذي أقل به: أنه إن كان المشهود له أتاه بالشاهدين ليشهد له عليها بشهادتهما عنده أنها فلانة، فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فليشهد عليها. قال: وكذلك لو سأل عن ذلك رجلاً واحدًا يثق به أو امرأة لجاز له أن يشهد. قال: ولو أتاه المشهود له بجماعة من لفيف النساء يشهدن عنده أنها فلانة لجاز له أن يشهد إذا وقع له العلم بشهادتهن. وإذا شهدت بينة على عين امرأة بدين وزعمت أنها بنت زيد، فليس للقاضي أن يسجل على بنت زيد حتى يثبت بالبينة أنها بنت زيد.
القسم الثاني: ما لا يدرك بالإحساس، وإنما يثبت بقرائن الأحوال أو بالتسامع.
أما القرائن فكالشهادة بالإعسار، فإنه إنما يدرك بالخبرة الباطنة، وقرائن الأحوال في الصبر على الضر والجوع، ولا يعلم ذلك بيقين، لكن إذا حصل ظن قريب من اليقين جازت الشهادة. وكالشهادة للمرأة بضرر زوجها، ففي العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم أن ذلك جائز بالسماع من الأهل والجيران.
وأما التسامع، فهو أن يقول الشهود: سمعنا سماعًا فاشيًا من أهل العدل وغيرهم.
وقال محمد: يقولون: إنا لم نزل نسمع من الثقات.
وقال مطرف وابن الماجشون: يقولون: سمعنا سماعًا فاشيًا من أهل العدل. قالا: ولا يجوز من غير أهل العدل من سامعين أو مسموع منهم، ولا يسمون من سمعوا منه، فإن سموا كان نقل شهادة لا شهادة سماع.
قال أبو إسحاق التونسي: وشهادة السماع أجيزت للضرورة، ولا يستخرج بها شيء من يد حائز، وإنما تصح للحائز، مثل أن يثبت رجل على رجل حائز لدار أنها لأبيه أو لجده، وهذا الطالب غائب، فيقيم الذي هي في يده بينة على السماع في تطاول الزمان أنه اشتراها من أبي هذا القائم، أو جده، أو ممن صارت إليهم عنهم، فيثبت له بقاؤها في يده بهذه الشهادة، أو إن أباه هو أو جده اشتراها من أبي هذا القائم أو جده أو ممن صارت إليه عنهم، فيثبت له بقاؤها في يده بهذه الشهادة. قال: وكذلك السماع في الأحباس أن تكون داراً ليست في يد مشتر لها، وإنما هي في يد حائزين لها، فتشهد بينة على السماع أنها حبس على الحائزين لها وعلى أعقابهم، أو تكون لا يد عليها لأحد، فتشهد بينة أنها حبس على بني فلان، أو حبس لله تعالى ما بقيت الدنيا، فهذا الذي تصح فيه شهادة السماع طال الزمان.
وقال أبو القاسم بن محرز، بعد أن ذكر مثل ما ذكر أبو إسحاق: ولن يقضي لأحد من هؤلاء؛ بما وصفنا من شهادة السماع، إلا بعد يمينه. قال: وذلكم أن السماع إنما هو نقل وإن لم يكن من شرطه إذن المنقول عنهم الشهادة، ولعل أصل السماع عن شاهد واحد، فالشاهد الواحد لا يقوم به الحق إلا مع اليمين. قال: ولن تقبل شهادتهم إلا مع السلامة من الريب، فلو شهد رجلان على السماع، وفي القبيل مائة رجل من أسنانهما لا يعرفون شيئا من ذلك، لم تقبل شهادتهما، إلا أن يكون العلم بذلك فاشيًا فيهم، قال: فأما لو شهد شيخان قديمان قد باد جيلهما لقبلت شهادتهما وإن لم يشهد بذلك غيرها. كذلك قال ابن القاسم.
إذا تقرر هذا فيثبت بشهادة السماع إذا وقعت على هذه الأوصاف الوقف والملك. والمشهور في المذهب: الاجتزاء فيها بقول عدلين.
وقال عبد الملك في المبسوط: أقل ما يجوز في الشهادة على السماع أربعة شهداء، قال: وذلك أنه شبيه بالشهادة على الشهادة، فاحتيط في شهادة السماع، ثم حيث قلنا بقبولها في لوقف والملك، فتقبل في الدور والأرضين والحيازات والصدقات وفي الموت فيما بعد من البلاد، ولا يكون جميع ذلك إلا فيما تطاول فيه الزمان. واختلف في الخمس عشر سنة، فلم يرها في كتاب محمد طولاً، ورآها طولاً في كتاب ابن حبيب. وقيل: إن كان وباء فهي طول وإلا فلا. وفي ثبوت النكاح والنسب والولاء بها خلاف.
فأما النكاح فقال سحنون في العتبية: جل أصحابنا يقولون في النكاح إذا انتشر خيره في الجيران: أن فلانًا تزوج فلانة وسمع الدفاف، فله أن يشهد أن فلانة زوجة فلان. زاد محمد بن عبد الحكم: وإن لم يحضر النكاح.
وأما الولاء والنسب فقال محمد: اختلف قول مالك في شهادة السماع في الولاء والنسب.وذهب أصبغ إلى أنه يؤخذ بذلك المال ولا يثبت له نسب به. ولا يعجبنا هذا. وأكثر قول مالك وابن القاسم أنه يقضي له بالسماع بالولاء والنسب،وكذلك في الأحباس والصدقات فيما تقادم.
وفي العتبية من رواية أبي زيد عن ابن القاسم: يقضي له بالميراث ولا يجر بذلك ولاء، ولا يثبت له نسب، إلا أن يكون أمرًا منتشرًا، وفي بعض الروايات: سماعًا فاشيًا ظاهرًا مستفيضًا يقع به العلم فيرتفع عن شهادة السماع، ويصير في باب الاستفاضة والضرورة، وذلك مثل أن يقول: أشهد أن نافعاً مولى ابن عمر وأن عبد الرحمن بن القاسم وإن لم يعلم الشاهد لذلك أصلا. وفي آخر المسألة قيل لابن القاسم: أفتشهد أنك ابن القاسم ولا تعرف أباك ولا أنك ابنه إلا بالسماع، قال: نعم يقطع بهذه الشهادة، ويثبت بها النسب.
وأما الملك، فإنما يشهد به إذا طالت الحيازة وكان يفعل فيه من التصرف ما يفعل المالك من البناء والهدم ونحو ذلك، ولا ينازعه فيه أحد، وإن لم يعلم حين دخوله في ملكه وليس يكتفي بشهادة هؤلاء أنه يحوزها وإن طالت حيازته حتى يقولوا شهادتهم: إنه يحوزها بحقه، وإنها لم ملك. فأما من رأى من يشتري شيئا من سوق المسلمين، فلا يجوز له أن يشهد له بالملك، لأنه قد يشتري من غير مالك.

.الفصل الثاني: في وجوب التحمل والأداء:

أما التحمل: فحيث يفتقر إليه ويخشى تلف الحقوق لعدوه، فهو من فروض الكفايات، لأن إباية الناس كلهم عنه إضاعة للحقوق،وإجابة الكل إليه إضاعة للأشغال.
وأما الأداء: فيجب على من تحملها إذا كان متعينًا ودعي لأدائها من مسافة قريبة كالبريد والبريدين، فإن دعي من مسافة بعيدة لم يلزمه. وحيث قلنا باللزوم بقرب المسافة، فلو كانوا أكثر من اثنين فأدى منهم اثنان، واجتزأ بهما الحاكم لسقط الفرض عن الباقين، فإن لم يجتزي بهما تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات إذا دعاهم صاحب الحق لإحياء حقه. وإن كانوا اثنين فقط تعينا، فإن امتنع أحدهما وقال: أحلف مع الآخر، أثم. وكذلك لم يتعين وامتنع جميعهم لأثموا.
ولا يستحق الشاهد أجرة، لكن إن كانت المسافة بعيدة بحيث لا يلزمه الإتيان منها، فيجوز أن ينفق على الشاهد في إتيانه. وأما إن كانت المسافة مما يلزمه الإتيان منها، فلا يجوز له أن ينتفع من جهته، إلا ألا تكون له دابة ويشق عليه المشي، فيجوز له أن يركب دابة المشهود له لا غير.
وقال الشيخ أبو الوليد: إذا ركب دابة المشهود له وله دابة، أو أكل طعامه والمسافة قريبة فقيل: تبطل شهادته، وقيل: لا تبطل.
ولو كان الشاهد لا يقدر على النفقة ولا على اكتراء دابة، وهو ممن يشق عليه الإتيان راجلاً، فلا تبطل شهادته إن أنفق عليه المشهود له أو اكترى له دابة، وقيل: تبطل شهادته بذلك. إذا لم يكن مبرز العدالة. وكذلك لو كان الشاهد بمكان بعيد لا يلزمه الإتيان للأداء، قيل: لا يضره أكل طعام المشهود له وإن كان له مال، ولا ركوب دابته وإن كانت له دابة. وكذلك في انتظاره للأداء إذا احتجب السلطان فأنفق عليه المشهود له مدة الانتظار إذا لم يجد من يشهده على شهادته وينصرف. وقيل: إن شهادتهم تبطل بذلك لأنهم يوفرون به النفقة على أنفسهم.
قال الشيخ أبو الوليد: وهو الأظهر، قال: فانظر على هذا أبدًا إذا أنفق المشهود له على الشاهد في موضع لا يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه جاز، وإن أنفق عليه في موضع يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه فلا يجوز ذلك إلا فيما يركب الشاهد إذا لم تكن له دابة ولم يقدر على المشي، فلا اختلاف في أنه يجوز للشاهد أن يركب دابة المشهود له إذا لم تكن له دابة وشق عليه المشي. جملة من غير تفصيل بين قريب ولا بعيد ولا موسر ولا معسر، وإنما يفترق ذلك حسبما ذكرناه في النفقة وفي الركوب إذا كانت له دابة. وأما الكاتب فيستحق الأجرة.

.الباب الرابع: في الشاهد واليمين:

والأموال وحقوقها، الخسيس منها والنفيس، العين وغيره، من مشار إليه أو في الذمة، يثبت بشاهد ويمين. قال محمد بن عبد الحكم: الشاهد العدل البين العدالة.
ولا يثبت بهما النكاح والطلاق والعتاق وغير ذلك من الحقوق الخارجة عن الأموال. لكن إن شهد عليه بالطلاق أو بالعتاق فلا تلغى الشهادة حتى يكون وجودها كعدمها، بل يطالب المشهود عليه بأن يقر أو يحلف، فإن امتنع منهما، فهل يحكم عليه بمقتضى الشهادة أو يحبس ليقر أو يحلف؟، روايتان: وبالأولى قال أشهب ومحمد بن عبد الحكم، وبالثانية أخذ ابن القاسم وأكثر الأصحاب وهي الأخيرة.
ثم إذا قلنا بأنه يحبس، فهل تحدد مدة حبسه بالسنة فيخلى سبيله بعدها إن تمادى على الامتناع من الإقرار واليمين، أو يتمادى حبسه أبدًا حتى يحلف أو يقر؟، قولان: والأول لابن القاسم، والثاني قاله مالك، وأخذ به سحنون.
ومن ادعى عبدًا في يد غيره أنه كان ملكه فأعتقه فلا يكفيه شاهد ويمين، لأنه يثبت الحرية دون الملك، فأما إن اتفق اجتماع الصنفين بترتب أحدهما على الآخر مثل أن تكون الشهادة بمال إلا أن ثبوت يتضمن معنى آخر لا يحكم فيها بالشاهد واليمين كالشهادة بشراء الزوجة الأمة، أو عكس هذا بأن يشهد الشاهد بما ليس بمال، لكن يتضمن مالاً في المآل كالشهادة بالوكالة على قبض مال مثلاً، فهل تقبل الشهادة حينئذ أم لا؟.
أما المثال الأول: وهو مباشرة الشهادة للمال فتقبل وإن آلت إلى غير مال، لأن ترك قبولها يؤدي إلى مخالفة أحد أصلين متقررين وهما: قبول الشاهد واليمين في بيع الإماء، وفسخ النكاح بملك أحد الزوجين للآخر.
وأما المثال الثاني: فاختلف فيه كما تقدم، فقال ابن القاسم: تقبل فيه لأن المقصود البراءة من المال، وما قبله في حكم اللغو إذ ليس المقصود منه إلا ما ذكرناه.
وقال أشهب وابن الماجشون: لا تقبل.
وسبب الخلاف: الاعتبار بالمآل أو بالحال.
قال الإمام أبو عبد الله: ولا خلاف في أن شهادة الواحد دون اليمين معه لا يقضي بها من باب الشهادة، كما أن يمين المدعي دون شهادة من يشهد له لا يقضي بها، وإنما يقضي بمجموعها على اضطراب بين العلماء هل القضية مستندة إلى الشاهد واليمين مع شهادته كالتقوية له، أو مستندة إلى اليمين والشاهد كالمقوي لها، أو مستندة إليهما؟ فأما إذا رجع الشاهد عن شهادته غرم نصف الحق كرجوع أحد الشاهدين. ثم قال: ولو أسندت القضية إلى اليمين لكان لتغريم الشاهد وجه، لان بشهادته صارت اليمين في جنبة الحالف. قال: فينظر في هذا، كرجوع المزكين عن التزكية.
إذا تقرر أنه لا يحكم بمجرد شهادة الشاهد الواحد حتى يقترن به اليمين، فلليمين أربعة أحوال:
الأول: أن تكون ممكنة، فيحلف الطالب ويستحق، واحدًا كان أو جماعة، مؤمنًا أو كافرًا، حرًا أو عبدًا، ذكراً أو أنثى، فإن نكل ردت على المطلوب، فإن حلف برئ،وإن نكلك غرم.
فرع:
لو حلف المطلوب ثم وجد الطالب شاهدًا آخر فهل يحكم له به أم لا؟ قولان:
الأول: في كتاب محمد.
والثاني: لابن القاسم وابن كنانة،وعدا نكوله قاطعاً لحقه.
وإذا فرعنا على الحكم له به، فالمراد بذلك أنه يحلف معه، لا أنه يضم إلى الأول. وإن نكل فهل يحلف المطلوب مرة ثانية، لأنه لم يستفيد باليمين الأولى سوى إسقاط الشاهد الأول، أو يسقط حقه بدون يمين المطلوب، لا، يمينه قد تقدمت فلا تتكرر اليمين عليه؟ قولان أيضًا.
الأول: في كتاب محمد.
والثاني: لابن مسير.
الحال: الثاني أن تكون اليمين ممتنعة غير مرجوة الإمكان، كما إذا شهد الشاهد، مثلاً، على رجل أنه حبس ربعًا على الفقراء أو تصدق عليهم بمال، فلا يمكن أن يستحلف جميع الفقراء، إذ ذلك ممتنع عادة، ولا سبيل إلى التحكم بتخصيص بعضهم باليمين، إذ لا يستحلف إلا من يستحق الملك أو القبض،وليس في الفقراء من يشار إليه إلا ويمكن أن تصرف الصدقة عنه إلى غيره، فلا يتعين لأحد منهم استحقاق ملك ولا قبض، فإذا ظهر امتناع اليمين لحق هذا القسم بقيام الشاهد الواحد في الطلاق والعتاق، لا، تعذر هذا عرفًا كتعذر الأول شرعًا، فلا جرم تنتقل اليمين إلى جانب المطلوب كما تقدم.
الحال: الثالث أن تكون اليمين ممتنعة الآن، مرجوة الإمكان في الاستقبال كشاهد شاهد لصبي بحق، فإن اليمين تمتنع من الصبي حتى يبلغ, لكن لا بد لشهادة الشاهد من أثر ناجز، والمنصوص في المذهب والمعروف منه تحليف المطلوب كما في القسم الثاني، فإن حلف ففي إيقاف المشهود به إذا كان معينًا كدار أو عبد، أو كان مما يخشى تلفه إن لم يوقف، قولان مبنيان على الخلاف في أن القضية مستندة إلى الشاهد، وإنما اليمين كالمقوية، فيوقف المطلوب إذا وجد سببه، أو ليس استنادها إليه فلا يوقف لعدم السبب. وإن نكل المطلوب أخذ المشهود به منه لكن هل يؤخذ أخذ تمليك أو أخذ إيقاف؟ قولان:
الأول: في كتاب محمد.
الثاني: في كتاب ابن حبيب. ويتخرج على هذا الخلاف استحلاف الصبي وعدم استحلافه.
فروع:
الفرع الأول: إذا قلنا: يؤخذ أخذ إيقاف، استحلف الصبي بعد البلوغ، فإن نكل حلف المطلوب حينئذ ويرى، فإن نكل أخذ الحق منه.
الفرع الثاني:
إذا استحلف المطلوب فحلف، ثم استحلف الصبي فنكل، اكتفي بيمين المطلوب الأول. هذا هو المشهور من المذهب، وأشار بعض المتأخرين إلى إمكان إجراء الخلاف في ذلك على الخلاف المتقدم.
الفرع الثالث:
إذا شهد الشاهد واستحلف المطلوب فحلف أو نكل، فلم يحكم عليه، على الخلاف المتقدم، فإن الحكم يكتب شهادة الشاهد ويثبتها ويسجلها للصغير صيانة لحقه خوفاً من موت الشاهد أو تغير حاله عن العدالة قبل بلوغ الصبي. ولو مات الصبي قبل بلوغه لحلف وارثه الآن واستحق.
الفرع الرابع:
لو كان الصغير لا مال له، وإنما ينفق عليه من مال أبيه بالحكم عليه، فطلب الأب أن يحلف هو مع شهادة شاهد قام لولده الصغير الذي في كفالته ونفقته، فأشار في كتاب محمد إلى أن الأب لا يمكن من ذلك، ورآه كالحالف على مال ليملكه غيره. وروي أن له أن يحلف مع الشاهد لما له في ذلك من المنفعة لسقوط النفقة عنه.
قال الإمام أبو عبد الله: وكأن هذا الخلاف يلتفت إلى ما تقدم من الخلاف في كون القضية مستندة إلى مجرد شهادة الشاهد أم لا؟.
الحال الرابع أن تكون اليمين ممكنة من بعض من له الحق، وممتنعة من بعضهم، وذلك كشهادة شاهد على رجل بأنه وقف داره على بنيه وعقبهم بطنًا بعد بطن، فإن من لم يلحق من الأعقاب يستحيل أن يستحلف إلا مع شهادة من شهد له، والموجودة من ولد الصلب لا تستحيل يمينهم، فاختلف المذهب ها هنا لكون هذه الشهادة وقعت بشيء واحد تصح اليمين فيه مع الشاهد من وجه وتتعذر من وجه آخر. فذكر محمد أن الذي يذهب إليه أصحابنا امتناع اليمين مع هذه الشهادة على الإطلاق. وروى ابن الماجشون أنه إذا حلف الجل من أهل هذه الصدقة ثبت جميعها على حسب ما أطلقه المحبس. وروى ابن وهب ومطرف وابن الماجشون أنه إذا حلف واحد ممن يستحق هذه الصدقة ثبت جميعها للحاضر والغائب ومن يولد بعد.
وسبب الخلاف: أن الشهادة اشتملت على ما تصح اليمين معه وما لا تصح، فمن التفت إلى جانب تعذرها أبطل الحبس، ومن التفت إلى جانب الصحة صحح الحبس.
ثم اختلف على القول بالتصحيح، هل يكتفي بيمين الجل لكونهم يقومون مقام الكل، أو يكتفي بواحد لان الجل إنما يستحق بيمينهم غيرهم ممن لم يحلف، لأن يمين الحالف تنسحب على حقوق غيره لما كانت لا شهادة بشيء واحد لا يتبعض في الحكم تصحيحًا لها على الإطلاق، وكذلك يمين الواحد.
قال الإمام أبو عبد الله: وربما هجس في نفسي تعليل آخر، وهو أنه حلف واستحق نصيب طالبه بقية طبقته بنصيبهم مما أخذ، إذ حقهم فيه على الشياع وهو مقر لهم، فإذا أخذ منه شيء عاد اليمين لإكمال نصيبه، فلا يزال هكذا حتى يؤخذ الحبس كله، فاكتفى بيمينه وحده يمينًا واحدة، لأنه حلف على الجميع لحق نفسه على هذا التخريج.
وروى بعض القرويين، تفريعًا على ثبوت هذا الحبس بيمين الحاضرين مع الشاهد، أنه إن حلف الجميع ثبت الحبس، وإن نكل الجميع لم يثبت لواحد منهم حق، وإن حلف بعضهم ونكل البعض، فمن حلف استحق نصيبه، ومن نكل لم يستحق شيئا، وقدر أن كل نصيب كحق منفرد شهد به شاهد لرجل واحد، فإن حلف استحق، وإن نكل لم ستحق. قال: وكذلك إذا انقرض البطن الأول ووجد البطن الثاني، فإنهم لا يستحقون شيئا إلا بالإيمان كالبطن الأول. وقيل فيمن لم يحلف أبوه: إنه لا يستحق شيئا وإن أجاب إلى اليمين.
وسبب الخلاف: هل يلتقي البطن الثاني منافع الوقف عن الواقف أو عن الأول؟ وعلى تحقيق هذا المعنى أيضًا يتخرج حكم ما لو حلف واحد من البطن الأول ونكل سائرهم، وقلنا بأنه يستحق نصيبه دون غيره، ثم مات هو وبقي إخوته الناكلون،هل يرجع نصيبه إلى بقية أهل طبقته أو إلى البطن الثاني؟
قال الإمام أبو عبد الله: وقد قيل: إن نكولهم يصيرهم كالموتى، ويرجع الحق إلى البطن الثاني. قال: والأظهر عندي أن المحبس إذا شرط أن لا يأخذ البطن الثاني إلى أهل البطن الثاني. قال: والأظهر عندي أن المحبس إذا شرط أن لا يأخذ البطن الثاني شيئا إلا بعد انقراض البطن الأول وموت جميعهم، فما دام أحد من الناكلين حيًا لا يستحق أهل البطن الثاني شيئا، فإذا مات جميعهم، من حلف ومن نكل، انتقل حكم الشهادة إلى البطن الثاني، فمن حلف استحق، ومن لم يحلف لم يستحق شيئا.
ويتخرج على تحقيقه، أيضًا، أنه هل يفتقر أهل البطن الأول في استحقاق ما يرجع إليهم عمن مات من طبقتهم إلى يمين مجدة، كما في استحقاق البطن الثاني بعد انقراض البطن الأول؟ قولان، سببهما ما تقدم.
فرع:
فيما يقوم مقام الشاهد واليمين.
ويقوم مقامهما الشاهد والنكول، والمرأتان واليمين،والمرأتان والنكول، واليمين والنكول.

.الباب الخامس: في الشهادة على الشهادة:

وهي تجري في كل شيء من حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين من مال أو حد أو قصاص.
ثم النظر في أربعة أطراف:

.الطرف الأول: في التحمل:

ولا يجوز تحمل الشهادة على الشهادة إلا إذا قال الشاهد: أشهد على شهادتي. أو رآه الفرع وهو يشهد بين يدي الحاكم، فله أن يشهد على شهادته وإن لم يشهده.
وقال محمد: لا يشهد على شهادته وإن رآه يؤيدها حتى يشهده، ولو قال في غير مجلس الحاكم لفلان على فلان كذا وعندي به شهادة لم يجز التحمل لأنه يتساهل في غير مجلس الحكم، وكذلك لو قال: أشهد أن له عليه كذا، لم يتحمل أيضًا.

.الطرف الثاني: في الطوارئ على شهود الأصل:

ولا يضر موت شاهد الأصل وغيبته ومرضه، بل هو المراد من شهود الفرع. أما إذا طرأ عليه الفسق أو العداوة أو الردة امتنعت شهادة الفرع، ولو طرأ الجنون لم تمتنع.
فرع:
إذا أكذب شهود الأصل شهود الفرع قبل الحكم بطلب شهادة الفروع. قال أبو الحسن اللخمي: واختلف إذا كان إكذابهم لهم بعد حكم القاضي بشهادتهم، فقال محمد في رجلين نقلاً عن أربعة أنهم أشهدونا أنهم يشهدون على فلان بالزنى، فلم يحد الناقلان حتى قدم الأربعة فأنكروا أن يكونوا أشهدوهم، قال: يحد الأربعة القادمون حد القذف، ويسلم الاثنان لأنهما صارا شاهدين على الأربعة بالقذف. قال: فأثبت النقل وجعل إنكار الأربعة رجوعاً.
وقال مالك، في كتاب ابن حبيب، في رجلين نقلاً عن غائب فحكم بشهادتهما مع يمين الطالب، ثم قدم الغائب فأنكر الشهادة فإن الحكم ينقض ويرد.
وقال ابن القاسم ومطرف: الحكم ماض ولا غرم عليه ولا على الناقلين. قال: ولو قدم قبل الحكم بها لكان أحق بشهادته.

.الطرف الثالث: في العدد:

ويشهد على كل شاهدان. وإن شهدا على شهادتهما جميعًا جاز في غير الزنى.
وقال عبد الملك: لا تجوز أن يشهد على الآخر اثنان سوى الاثنين الذين شهدا على الأول ولا يجوز أن يشهد أحد شاهدي الأصل مع شاهد آخر على شهادة الأصل الآخر.
وأما شهادة الزنى فلا تثبت بالنقل، على رواية مطرف، إلا بستة عشر شاهدًا على كل شاهد أربعة غير الأربعة الذين يشهدون على غيره.
وقال ابن الماجشون: إذا شهد أربعة على كل واحد من الأربعة جاز، فإن تفرقوا فثمانية على كل واحد اثنان.
وحكى القاضي أبو محمد، رواية ثانية بالاكتفاء بشهادة اثنين على كل واحد من شهود الأصل، ثم قال: والأولى هي الصحيحة.
وقال محمد: إن شهد اثنان على شهادة واحد واثنان على شهادة ثلاثة تمت الشهادة. قال: وإن شهد اثنان على رؤيتهما ونقل الاثنان عن اثنين جازت الشهادة.

.الطرف الرابع: في العذر المرخص لشهادة الفرع:

وهو الموت والغيبة والمرض ونحوها من الأعذار، فلا تسمع شهادة الفرع إلا إذا مات الأصل أو مرض مرضا يشق عليه الحضور،أو غاب بمكان لا يلزمه الحضور منه لأداء الشهادة. قال محمد: ولا تنقل في الحدود إلا في غيبة بعيدة. فأما اليومان والثلاثة فلا، إلا المرأة فإنه ينقل عنها مع حضورها بالبلد. ورواه ابن حبيب عن مطرف قال: ولم أر بالمدينة امرأة قط قامت بشهادتها عند الحاكم، ولكنها تحمل عنها،وذلك لأن ما يلزمها من الستر عذر يسقط عنها فرض الجمعة، فكان كالمرض وخوف الغريم فكل ما تترك به الجمعة كالمرض.
وليس على شهود الفرع تزكية شهود الأصل،لكن إن زكوهم ثبتت عدالتهم وشهادتهم بقولهم، وليس عليهم أن يشهدوا على صدق شهود الأصل.
فرع:
يجوز أن يشهد النساء على شهادة غيرهن فيما تجوز شهادتهن عليهن، وليكن مع رجل.
وقال أشهب وعبد الملك: لا يجوز نقلهن للشهادة بحال، لا في مال ولا في غيره، إذ النقل لا يجوز فيه الشاهد واليمين، وإنما تجوز شهادتهن حيث يحكم بالشاهد واليمين.

.الباب السادس: في الرجوع عن الشهادة:

قال محمد: لم يحفظ أصحاب مالك عنه في غرم الشاهد جوابًا، إلا أن جميع أصحابه يرون أن يغرم ما أتلف بشهادته إذا أقر بتعمد الزور. قال عبد الملك بن الماجشون: وإن رجع ولم يقر بالتعمد لم يغرم.
وقال ابن القاسم وأشهب: إن شهدا على رجل بحق واحد ثم قالا قبل الحكم: بل هو هذا، لرجل غيره وقد وهمنا، لم يقبلا في الأولى ولا في الأخيرة.
ثم النظر في المشهود به يتعلق بأطراف:

.(الطرف) الأول: القصاص:

وللرجوع ثلاث حالات.
الحالة الأولى: أن يكون قبل القضاء، فيمتنع القضاء ولو لم يصرح الشاهد بالرجوع ولكن عاد فقال للقاضي: توقف في قبول شهادتي، ثم عاد وقال: اقض فقد ذهب عني التشكك، فقال الإمام أبو عبد الله: لا يبعد أن يجري في قبولها القولان الجاريان في التشكك قبل الأداء، كما لو سئل عن شهادة فلم يذكرها ثم عاد فقال: تذكرتها، قال:، قال: ولكن اشترط مالك رضي الله عنه في قبول هذه الشهادة البروز في العدالة، قال: والواجب قبولها على الإطلاق لأن التشكك يعرض للعالم بال شيء ثم يذهب عنه ويرجع على اليقين.
الحالة الثانية: الرجوع بعد القضاء وقبل الاستيفاء، وفي ذلك خلاف، قال أصبغ: لا يستوفي.
وقال ابن القاسم: يستوفي كما في الأموال.
وقال أيضًا: القياس نفوذه، واستحسن ألا ينفذ لحرمة الدم، ورأى فيه العقل. ويقرب من قوله هذا قول محمد، في رجوع الشهود بزنى المحصن بعدا لحكم وقبل تنفيذه: إنه لا يرجم ولكن يجلد حد البكر.
الحالة الثالثة: الرجوع بعد الاستيفاء، كما لو شهدا بقتل واستوفى، ثم رجعا، فإنهما يغرمان الدية في الخطأ،وكذلك في العمد أيضًا عند ابن القاسم.
وقال أشهب: يقتص منهما في العمد.
ثم حيث قلنا: لا يقتلان، فلا خلاف في عقوبتهما في العمد إذا ظهر عليهما أنهما تعمدا الزور ولم يأتيا تائبين. ولو علم القاضي بكون الشهود كذبوه وحكم، فأراق الدم لكان حكمه كحكمهم إذا لم يباشر القتل بنفسه، بل أمر به غيره ممن تلزمه طاعته. ولو علم ولي القصاص أن الشهود تعمدوا الكذب وأن القاضي علم ذلك منهم، ثم باشر قتل قاتل وليه بهذا الحكم لكان عليه القصاص أن اعترف بالعمدية، والشاهد معه كالشريك.

.الطرف الثاني: الحدود:

وإذا رجع الشاهد قبل الحكم ردت شهادتهم وحدوا، وإن رجعوا بعد إقامة الرجم، فإن اعترفوا بتعمد الزور حدوا، ثم هل يقتلون، أو تؤخذ الدية من أموالهم، قولان لأشهب وابن القاسم، وإن لم يتعمد فالدية على عواقلهم.
فروع:
الفرع الأول: إذا شهد أربعة بالزنى ثم رجع أحدهم قبل الحكم حدوا، ولو كان رجوعه بعد الحكم وإقامة الحد على الزاني لحد الراجح بغير خلاف.
واختلف هل يحد الباقون، لأن الزنى لم يثبت بأربعة أو لا يحدون لأن الحكم نفذ بشهادتهم وهم الآن باقون عليها لم يكذبوا أنفسهم؟
الفرع الثاني:
لو كان الشهود ستة فرجع اثنان منهم، لم يحد الباقون لاستقلال الحد بشهادتهم وهم لم يرجعوا عنها. واختلف قول ابن القاسم في وجوب الحد على من رجع.
وسبب الخلاف: النظر إلى أنهما معترفان بالقذف ومقران بأن من شهد معهما شهدوا بزور، أو النظر إلى أنهما كالقاذفين شهد لهما أربعة بأن المقذوف زنى، قال الإمام أبو عبد الله: والتحقيق أن يكشف الراجعان، فإن قالا: إنهما كذبا وكذب من شهد معهما، حدًا، وإن قالا: لا نعتقد كذب من شهد معنا بل الغالب صدقهم لعدالتهم عندنا لم يحدا.
الفرع الثالث:
لو انكشف بعد رجوع الاثنين أن أحد الأربعة الذين بقوا عبد فقال في كتاب محمد: يحد الراجعان، ويغرمان ربع الدية لكون الحد أقيم بأربعة بطل أحدهم بكونه عبدًا، ولا غرامة على العبد لأنه لم يرجع عن شهادته، ولكن عليه الحد لأن الشهادة لم تتم، ولا يلزم الثلاثة حد ولا غرامة. ولو لم يشهد عليه إلا أربعة فرجم بشهادتهم ثم وجد أحدهم عبدًا، فإن عليهم الحد أجمعين للقذف، وعلى العبد نصف حد الحر. قال الإمام: وهذا قد يعترض بأن العبد إذا حد لأن الشهادة لم تتم بأربعة، فكذلك يجب الحد على الأحرار الثلاثة أيضًا. قال: ويفرق ههنا بين بطلان شهادة الرابع الحر برجوعه وبين بطلان شهادة العبد، لأجل أن العبد لم يرجع عن شهادته فيوهن شهادة الثلاثة، وإنما ردت شهادته شرعاً.
الفرع الرابع:
إذا رجع من لستة اثنان بعد إقامة الحد فقد تقدم حكمهما، فلو رجع ثالث لزمه غرم ربع الدية، يدخل معه فيه من سبقه بالرجوع قلوا أو كثروا، مع الحد على كل واحد منهم، سواء رجعوا معًا أو مفترقين. فإن رجع آخر، أيضًا لزمه ربع الدية، يشاركه فيها كل من رجع قبله ويشركهم فيما غرموا قبله، فيصير نصف الدية بين جميعهم على عددهم، فإن رجع ثالث لزمه مع كل من رجع قبله ثلاثة أرباع الدية.
الفرع الخامس: إذا رجم المشهود لعيه، فلما فقئت عينه في الجرم رجع واحد من الستة ثم تمادى الرجم عليه، فأوضح موضحة، فرجع ثان ثم تمادى الرجم عليه فمات فرجع ثالث، فقال محمد: إنه لو لم يرجع هذا الثالث ما كان على من تقدم من رجوعه شيء، وأرى على الراجع الأول سدس دية العين، وعلى الثاني مثل ذلك وخمس دية الموضحة، وعلى الثالث ريع دية النفس فقط، قال: وقيل مضافاً إلى السدس والخمس المتقدمين، والأول أصح.
الفرع السادس: إذا شهد أربعة بالزنى واثنان بالإحصان، ثم رجع الجميع، فهل يختص غرم الدية بالأربعة أو يعمم الجميع؟، قولان:
القول الأول: قول ابن القاسم واختاره سحنون وأصبغ، ووجهه أن شهادتهم لم تباشر ما يوجب الحد، لأن السبب هو الزنى، وشهوده مختارون لأداء الشهادة، إذ لو شاءوا لم يشهدوا.
والقول الثاني: ذهب إليه أشهب وابن الماجشون ومحمد، ووجهه أن السبب مركب من مقتضى الشهادتين، إذ لو انفردت الشهادة بالزنى عن الشهادة بالإحصان لم تقبل.
ثم إذا فرعنا على القول الثاني فهل تقسم الدية على آحاد الجنسين فتكون بينهم أسداسًا أو على الجنس فيكون على كل جنس نصفها، فيخص كل واحد من الأربعة ثمن الدية، وكل واحد من الاثنين ربعها؟ قولان، أيضًا:
الأول: لأشهب وعبد الملك، ووجهه أن الستة اشتركوا في الموجب للحد وأيهم قدر عدمه بطل الموجب، فكانوا كلهم فيه سواء.
والقول الثاني: لمحمد، ووجهه أن الموجب مركب من وصفين: الزنى والإحصان، والمقصود بعدة الشهود إنما هو ثبوت كل واحد منهما، وليس العدد بمقصود في نفسه فيعتبر، وإنما يعتبر المقصود وهو ثبوت الوصفين.
الفرع السابع: إذا شهد شاهدان على رجل بأن قد قذف رجلاً، فحد المشهود عليه بشهادتهما، ثم رجعا وأكذبا أنفسهما، فقال سحنون: لا غرم في ذلك ولا قود عند جميع أصحابنا، وإنما في ذلك الأدب. وكذلك لو شهد بأنه شتمه أو لطمه أو ضربه سوطًا، ثم رجعا بعد الحكم، بها فإنما في ذلك الأدب. قال بعض المتأخرين: لأنهما لم يتلفا مالاً فيغرماه، ولا نفسًا بتعمده شهادة الزور فيطلبان بديتها عند ابن القاسم، أو بالقصاص عند أشهد.
الفرع الثامن: إذا ادعى المقتضي عليه أن الشهادتين عليه رجعا عن شهادتهما وقالا: شهدنا بزور، وطلب إقامة البينة مكن منه، فإن أقامها قضي عليهما بالمال.
وكذلك في قيام البينة برجوع أحدهما يغرم نصف المال، فإن طلب يمينهما أنهما لم يرجعا، ففي إلزامهما اليمين له قولان:
الأول: رواية ابن سحنون عن أبيه، قال: إذا أتى بلطخ يوجب عليهما اليمين.
والثاني: لمحمد بن عبد الحكم.
ولو رجعا عن الرجوع لم يقالا، بل يقضي عليهما بما يقضي به على الراجع المتمادي في رجوعه. ووجه ذلك أن رجوع الشاهد عن شهادته ليس بشهادة، وإنما هو إقرار على نفسه بما أتلف بشهادته، وقد نص على ذلك محمد، وكان عن ابن القاسم وعبد الملك وابن عبد الحكم وأصبغ، وعليه يخرج قول سحنون في استحلاف الشاهد إذا ادعى عليه بالرجوع فنكل.
الفرع التاسع: في ذكر ما يلحق برجوع الشهود، وهو ظهور كذبهم وإن لم يعترفوا بالكذب، وفي ذلك صور:
الأولى: إذا شهد شاهدان على رجل أنه قتل ابن رجل عمدًا، فحكم له بالقصاص وقتل المشهود عليه بأنه قاتل، ثم قدم الابن حيًا بعد ذلك، وتبين كذب الشهود، فذكر الإمام أبو عبد الله أن المذهب لم يختلف في تعلق الغرامة بالشهود، وإنما الخلاف في البداية والترتيب في الغرم وفي رجوع من غرم بما غرم على من لم يغرم. والذي أشار إليه هو أن ابن القاسم وسحنون قالا: تؤخذ الدية من الشهود إلا أن يكونوا فقراء فتؤخذ من الأب القاتل.
وروي نفي الترتيب، وأن ولي الدم يخير: إن شاء اتبع بالدية الشاهدين، وإن شاء اتبع بها الولي القاتل. ثم إن اتبع الشهود فليس له العدوان عنهم إلا أن يجدهم فقراء، وإن ابتدأ باتباع القاتل لم يكن له العدول عنه مليًا كان أو فقيرًا. وروي أيضًا أنه لا يرجع على الولي بشيء، وأما الرجوع فقال سحنون: من غرم لا يرجع على غيره بما غرم، كان ولي الدم أو الشهود.
وفي رواية التخيير: أن الشهود يرجعون بما أدوا على القاتل، ولا يرجع هو عليهم بما ودى.
ولو كانت الشهادة بقتل الخطأ فأخذت الدية من العاقلة ثم قدم المشهود بقتله حيًا لردت الدية، فإن أعدم آخذها غرمها الشهود، ثم لا يرجعون بها على الأخذ، ولا يرجع هو بها عليهم إن أخذت منه، وأما إن كانت الشهادة إنما هي على إقرار القاتل فلا يلزم الشهود غرم ولا عقوبة، والدية على آخذها. وكذلك ولو كانوا فروعًا ناقلين عن غيرهم.
الصورة الثانية: أن يشهد على رجل بالزنى فيرجم بالحكم المرتب على الشهادة، ثم يطلع بعد الرجم على أنه مجبوب، ويتبين كذب الشهود، ففي الكتاب: يغرم الشهود الدية في أموالهم. وذكر محمد عن أشهب أنه يرى الدية على عاقلة الإمام. وبه قال محمد بن عبد الحكم.
الصورة الثالثة: قال محمد بن عبد الحكم في رجل قيد عبده وحلف، قال الشيخ أبو محمد: يعني بحريته ألا ينزع عنه القيد شهرًا لفعل استوجب به ذلك، وحلف بحريته أن في القيد عشرة أرطال، ثم جاء شاهدان فشهدا أنه ليس في القيد إلا ثمانية أرطال، قال الشيخ أبو محمد: أراه يريد، فحكم القاضي بعتق العبد، قال: ثم إن السيد نزع القيد، قال الشيخ أبو محمد: يريد بعد الشهر، قال: فوجد فيه عشرة أرطال، قال محمد: فلينقض القاضي حكمه لأنه ظهر كذب الشاهدين.